هوكوساي. ’’الموجة العظيمة قبالة كاناغاوا‘‘، من ’’المناظر الستة والثلاثين لجبل فوجي‘‘.
بعد أن شاهد الكاتب إيدموند دي غونكورت المولع بالفن الياباني بعض المطبوعات المتعلقة بجبل فوجي ’’فوجي ياما‘‘ لكاتسزشيكا هوكوساي وأصدقائه، كتب في مجلته ـ٩٦): ’’لم ندرك بالقدر الكافي حجم الدين الذي يدين به فنانونا المختصين بالمناظر الطبيعية، وخاصة مونيه، لهذه الصور. لقد كان هذا الدين كبيرا بالتأكيد، فقد أُغرم رسامو المدرسة الانطباعية بمطبوعات أوكييو-إيه اليابانية، وليس هنالك أكثر شهرة من هذا النوع من الفن أو أكثر تأثيراً من سلسلة هوكوساي المسماة بـ’’فوغاكو سانجوروكّيه‘‘ أو ’’المناظر الستة والثلاثين لجبل فوجي‘‘. وحتى أنه بعد بضع سنوات تم اختيار المطبوعة الشهيرة ’’كاناغاوا أوكي نامي أورا‘‘ أو ’’الموجة العظيمة قبالة كاناغاوا‘‘ لتزيين غلاف أحد أعمال الموسيقار الفرنسي كلودي ديبوسي الشهيرة المسماة بـ’’لا مير‘‘. أيّ البحر حققت ’’المناظر الستة والثلاثين‘‘ لهوكوساي نجاحا باهراً وفورياً بين مختلف صفوف اليابانيين في ذلك الوقت، وذلك بجعل أكثر المعالم اليابانية شهرة كمجموعة متنوعة من أبرع التركيبات، فقد كان ينظر من خلالها في بعض الأحيان إلى مسافة بعيدة تتجاوز منظر مدينة إيدو أو عبر جوف الموجة إلى أزمنة أخرى بعيدة تهيمن على سطح الصورة بشكل كامل. ولكن ليس لهذا الإنجاز المبدع حدود، فقد أنتج هوكوساي ١٠ مطبوعات إضافية ليصبح المجموع الكلي ٤٦ منظراً. وبالإضافة إلى ذلك، ترك هوكوساي لنا ’’فوغاكو هياكّيه‘‘ أو ’’مائة منظر لجبل فوجي‘‘ والتي تضّمُ ثلاثة مجلدات من المطبوعات المُجَمَعَّة على شكل كتاب. ويظهر جبل فوجي في عدد آخر من أعمال هوكوساي، تشمل ايضا عملين اثنين من تلك المطبوعات بالحبر وهما: ’’شيوهيغاري-زو‘‘ أو ’’جامع المحار‘‘، حيث تظهر فيها صورة مذهلة لقمة جبل فوجي مكسوةً بالثلوج وهي مرتفعة في خلفية مشهد أناس يروحون عن أنفسهم بالحفر بحثا عن المحار مع تراجع أمواج المد، و’’فوجي-كوشي نو ريو‘‘ أو ’’التنين الطائر فوق جبل فوجي‘‘، وهو عمل يرجع تاريخه بين عام التسعين والسنة الأخيرة من حياة هوكوساي الطويلة (١٧٦٠- ١٨٤٩). ويبدو واضحا أن هذه العبقرية الدؤوبة في الفن الياباني بقيت مسحورة بجبل فوجي خلال حياته المهنية المثمرة.
هوكوساي. ’’جامع المحار‘‘.(متحف أوساكا البلدي للفنون).
هوكوساي. ’’التنين الطائر فوق جبل فوجي‘‘.
جبل فوجي يخلده الفن
كان هوكوساي فريداً بشكل نادر من نوعه في هذا الصدد. ومن الصعوبة بمكان أن يوجد رسام معروف في حقبة إيدو (١٦٠٠-١٨٦٨) لم يترك ورائه عملاً واحداً على الأقل ذو صلة بجبل فوجي بطريقة ما. ويمكن العثور على صور جبل فوجي التي لاتعد ولاتحصى في المناظر الطبيعية واللوحات وعلى الشاشات والمخطوطات والرموز الدينية والخرائط، ناهيك عن المنسوجات والسيراميك. وقد كان هذا الاتجاه واضحاً بشكل خاص في عالم أوكييو-إيه، وهوالنوع المحبب لدى الطبقة الوسطى. كما ازداد الطلب على الصور مع انتشار عبادة جبل فوجي وقيام عامة الناس بالحج إلى قمة الجبل. واستجاب العديد من فناني أوكييو-إيه وبدأوا بإنتاج المطبوعات والكتب المتعقلة بهذا الموضوع. ولعله من بين هؤلاء الفنانين كان هناك فنان مبدع آخر في المناظر الطبيعية عاش في آخر حقبة إيدو وهو أندو هيروشيغيه (١٧٩٧-١٨٥٨). فقد قرر هيروشيغيه بتأثر جزئي من هوكوساي أن ينشر سلسلة من اللوحات يتم جمعها من ’’مائة منظر لجبل فوجي‘‘. الا أنّهُ أيّ هيروشيغيه تخلى عن هذا المشروع وذلك بعد نشر المجلد الأول الذي يحتوي على ٢٠ مطبوعة، لكنه ترك سلسلتين منفصلتين تحتويان على ٣٦ منظرا في محاكاة لهوكوساي. وبالإضافة إلى ذلك، كان لجبل فوجي مكانة بارزة في سلسلة هيروشيغيه المعروفة بــ’’توكايدو غوجوسانتسوغي‘‘ أو ’’المحطات الثلاثة والخمسين لتوكايدو‘‘، وعمله الأخير ’’ميشو إيدو هياكّيه‘‘ أو ’’المناظر المائة لإيدو‘‘. وقد أنتجت مطبوعات أوكييو-إيه تلك الأعمال بكميات كبيرة وذلك ليس بهدف التقدير والتقييم الجمالي ولكن أيضا كهدايا للمسافرين والسياح على السواء. وربما يعطينا تواتر ظهور جبل فوجي في هذا الإنتاج الضخم من الأعمال وعلى النحو المشار اليه فكرة جيدة وبارزة عن الوعي الجماعي والشامل للأمة.
هيروشيغيه. ’’يوي‘‘، من ’’المحطات الثلاثة والخمسين لتوكايدو‘‘.
لقد أسر سحر جبل فوجي مخيلة اليابانيين قبل وقت طويل من حقبة إيدو وذلك بجماله المذهل وارتفاعه المثير للإعجاب (أعلى قمة في اليابان إلى الآن) وبموقعه المركزي. كما تغنت به قصائد عدة من ’’مان يوشو‘‘، أقدم مقتطفات شعرية في اليابان، من بينها مطلع القصيدة الطويلة الشهيرة ’’تشوكا‘‘ لــ’’يامابيه نو أكاهيتو‘‘ حيث جاء فيها: ’’منذ أن افترقت السماء والأرض، ترتفع قمة عالية إلهية وشامخة في سوروجا من فوجي….‘‘ كما ظهر ذلك أيضاً في كثير من الأحيان في النثر والشعر الياباني. في عالم الرسم، يعود أول تصور موجود لجبل فوجي إلى اواسط القرن الحادي عشر حيث وَرَد ذلك في ’’شوكوتو تايشي إيدين‘‘ أو’’السيرة الذاتية المصورة للأمير شوتوكو‘‘ والتي تحكي أسطورة ركوب الأمير على حصان أسود أُرسل له من مقاطعة كاي (حاليا محافظة ياماناشي) ليصعد به إلى قمة جبل فوجي. وقد لاقت تلك القصة شعبية خاصةً بعد انتشار عبادة الأمير شوتوكو، وبما أن جبل فوجي كان يظهر دائما برسوم توضيحية لتلك الأسطورة، فقد ساعد هذا الأمر على حفر صورة الجبل في وعي الناس. ففي فترة كاماكورا (١١٨٥-١٣٣٣)، يظهر جبل فوجي في مطبوعات ورقية مثل ’’يوغيو شونين إنغي إيه‘‘ تحكي قصة الكاهن المعروف إبّين الذي سافر حول البلاد لنشر تعاليم طائفة من الديانة البوذية عبر ترتيل ما يشبه تعويذة ’’نينبيتسو‘‘. كما يمكن أن نجد لوحات لمناظر طبيعية نقية تتعلق بجبل فوجي في فترة ما قبل حقبة إيدو.
شوتوكو تايشي إيدن.
ولكن شهدت فترة إيدو تغيراً مهماً في العلاقة بين الشعب الياباني وجبل فوجي. فقد أصبح لجبل فوجي بعد ذلك له حضور مألوف في حياة الناس العاديين، كما كان بالنسبة لهوكوساي وهيروشيغيه. وكان تحول مدينة إيدو (طوكيو حاليا) لتصبح مقراً لتوكوغاوا شوغوناتيه ومركزاً سكانياً كبيراً في اليابان سبباً رئيسياً لهذا التغيير.
جبل فوجي في حقبة إيدو
خلال فترة حكم اليابان من عواصم مثل نارا وكيوتو، كان جبل فوجي معروفاً لدى معظم اليابانيين بسمعته فقط، وذلك لأن عددٌ قليلٌ نسبياً من الناس كانت تسافر إلى المنطقة الشرقية النائية حيث يوجد الجبل. ولكن بالنسبة لسكان إيدو فقد كان الجبل جزءا من المشهد اليومي. وفي يوم صحو من أيام طوكيو المعاصرة، يمكن للمرء في بعض الأحيان أن يشاهد ظلال قمة جبل فوجي من أعلى قمة ناطحة سحاب في المدينة. إلا أن منظر فوجي كان مألوفاً بشكل أكبر وكان أوضح رؤية لمواطني مدينة إيدو. وإذا ما بالغت مطبوعات أوكييو-إيه في بعض الأحيان في حجم جبل فوجي بالنسبة للمدينة فإن ذلك يعود إلى كونها الطريقة التي كان سكان إيدو يرون بها هذا الجبل بعقولهم. وقد بنى اللورد الإقطاعي أوتا دوكان قلعة إيدو في منتصف القرن الخامس عشر، وعندما كانت المدينة لاتزال هادئة. وبوصفه رجلٌ ذو ذوق رفيع، فقد كان أوتا دوكان يستمتع بالتحديق بقمة جبل فوجي المقدسة وهو جالس في غرفة معيشته، وهذا مشهد وصفه في قصيدة له تتعلق بهذا الموضوع: ’’بيتي يقع في بستان صنوبر بالقرب من شاطئ البحر/ وقمة جبل فوجي الشامخة ترتفع متجاوزة إفريز سطح المنزل‘‘. بالنسبة لدوكان، كان جبل فوجي جزءا من المشهد اليومي، وكان الحال كذلك بالنسبة لسكان إيدو حتى بعد أن غدت أكبر مدينة في اليابان. ومن بين ١٢٠ لوحة تباع بوصفها ’’المناظر المائة لإيدو‘‘ لهيروشيغيه (بما في ذلك الغلاف والمطبوعة المضافة من قبل فنان آخر بعد وفاة هيروشيغيه)، هناك ١٩ مطبوعة أُخرى تصور جبل فوجي بوضوح، من بينها أول مطبوعة من سلسلة ’’ نيهون باشي يوكيباري‘‘ أو ’’نيهون باشي، الصحو بعد الثلج‘‘. حيث يظهر هنا جبل فوجي ناصع البياض في خلفية مشهد جسر نيهون باشي المغطى بثلوج بيضاء ناصعة. وجاء موقع جسر نيهون باشي، الموجود في قلب شيتاماتشي (المدينة المنخفضة) في مدينة إيدو حيث كان يتركز فيها النشاط التجاري وبيوتات الطبقة الوسطى من السكان، ليسمح برؤية رائعة لجبل فوجي، وبالنسبة للناس في إيدو كانت ’’أول رؤية لجبل فوجي‘‘ من على جسر نيهون باشي في ثالث يوم من الشهر الأول من كل عام والذي يعتبر أيضاً من المناسبات المهمة.
هيروشيغيه. ’’نيهونباشي، الصحو بعد الثلج‘‘، من ’’المناظر المائة لإيدو‘‘.
كما توجد بعض صور جبل فوجي من ’’المناظر المائة لإيدو‘‘ في مطبوعة ’’سوروغو-تشو‘‘. ومن خلال استخدام منظور من النمط الغربي لرسم العمق، ثَمّكن هيروشيغيه من رسم الخطوط الأفقية للشارع وواجهات المتاجر بحيث تتلاقى باتجاه نقطة التلاشي في الوسط ورسم جبل فوجي العظيم مرتفعا مباشرة فوق تلك النقطة وكأنه مظلة كبيرة تخيم على الشارع. ولم يكن هذا المنظر محض صدفة، فقد كان العديد من شوارع مدينة إيدو يقود إلى نقطة تتجه نحو جبل فوجي مباشرة، من بينها هذا الشارع والذي سمي فيما بعد مقاطعة سوروغا (محافظة شيزوكا حاليا)، حيث يوجد فيها جبل فوجي. كما أُطلقت على العديد من شوارع وأحياء إيدو أسماء تشير إلى جبل فوجي، وأسماء أخرى مأخوذة من الأُلفة التي كان مواطنو مدينة إيدو ينظرون بها إلى الجبل. وقد بقي عدد غير قليل من هذه الأسماء مثل سوروغا-داي وفوجيمي-تشو مستخدما حتى اليوم. وفي الحقيقة، لعب جبل فوجي دورا مهما في مخطط إيدو ’’الجديدة‘‘ التي نشأت بعد تأسيس توكوغاوا شوغناتيه في عام ١٦٠٣.
هيروشيغيه. سوروغا-تشو، من ’’المناظر المائة لإيدو‘‘.
منذ بناء العواصم القديمة لليابان ’’هيئيجوكيو‘‘ (نارا) و’’هيئانكيو‘‘ (كيوتو)، كانت المدن اليابانية مختلفة عن نظيراتها من العواصم الصينية النموذجية والغربية في كونها غير مُسَّورة وبالتالي كانت تفتقر إلى الحدود الخارجية الواضحة. كما انها لم تكن تحتوي على معالم أثرية عظيمة وأقواس نصر وأعمدة وأشياء أخرى هي بمثابة المعالم والرموز في الغرب. فقد لعبت الجبال في منطقة هيغاشيياما في كيوتو على سبيل المثال دور المعالم في المدن اليابانية وليس الهياكل الاصطناعية. اما في حال مدينة إيدو، فقد كان هناك اثنين من هذه المعالم: جبل تسوكوبا في الشمال وجبل فوجي في الغرب. وقد تم تنظيم بناء مدينة إيدو وفقا لمبادئ فينغ شوي للتنجيم، والتي تدعو إلى بناء طريق سريع يوصل إلى الغرب، وقد كان توكايدو الذي يبدأ من جسر نيهون باشي ذلك الطريق السريع و جبل فوجي اعظم المعالم السياحية الذي يُرى من مدينة إيدو. لقد كانت هذه هي المودة والتبجيل التي شعر بها أهالي إيدو حيال جبل فوجي، كما أنّهم ذهبوا أبعد من ذلك ببناء العديد من النماذج التقليدية المصغرة المسماة ب ’’فوجيزوكا‘‘ داخل المدينة. ومع انتشار عبادة جبل فوجي في حقبة إيدو، أصبح من الشائع جدا تسلق الجبل بوسيلة أو بأخرى. وقد تم منح ’’فوجيزوكا‘‘ لأولئك الناس الذين لم يتمكنوا من تسلق جبل فوجي الحقيقي. وبالرغم من أن ’’فوجيزوكا‘‘ صغيرة مقارنة بالحجم الحقيقي للجبل، فقد تم رسمها في مطبوعة ’’ميغورو شين-فوجي‘‘ أو ’’نموذج جديد مصغر لجبل فوجي في ميغورو‘‘ في ’’المائة منظر لإيدو‘‘ لهيروشيغيه بطول ١٥ مترا تقريبا وتكتمل مع بوابة ’’شينتو توري‘‘ في الأسفل ومع طريق يقود إلى مزار مصغر، فضلا عن مسار يستطيع الزوار من خلاله التسلق إلى القمة. وكانت ميغورو تحتوي على أقدم مصغرة لجبل فوجي، وأيضا تم رسمها في ’’المائة منظر لإيدو‘‘، ووفقا للسجلات، فقد جذبت كل من ’’فوجيزوكا‘‘ الجديدة والقديمة الكثير من الزوار. وإجمالا كان هناك سبع مصغرات لجبل فوجي في إيدو، ولايزال بعضها قائماً حتى اليوم. وهكذا فمن الواضح أن جبل فوجي كان جزءا لايتجزأ من حياة المدينة.
ميغورو، من ’’المائة منظر لإيدو‘‘.
هيروشيغيه. ’’ميغورو موتو-فوجي‘‘ ( المصغرة الأصلية لجبل فوجي في ميغورو)، من ’’المائة منظر لإيدو‘‘.
عبادة جبل فوجي
بُنيت أول ’’فوجيزوكا‘‘ من قبل أعضاء جماعة تعرف بــ’’فوجي كو‘‘، وهي جمعية مخصصة لتسلق جبل فوجي كطقوس دينية. وكان كل أعضاء ’’فوجي كو‘‘ يجمعون الأموال لرعاية رحلات حج سنوية يشارك بها ثلث إلى خمس الأعضاء، وهكذا وبمرور ثلاث إلى خمس سنوات يكون جميع الأعضاء قد أتموا صعود الجبل مرة على الأقل. وعلى اعتبار أن تلك الرحلات حملت طابعا دينيا، فقد كان المشاركون يقومون أولا بزيارة مزار سينغين على سفح الجبل والوضوء هناك. ومن ثم يتسلق المشاركون الجبل مرتدين جلابيب بيض تعبيرا عن الزهد الديني ولتقديم التعظيم في المزار الموجود على قمة الجبل. وبعد ذلك، تنزل مجموعة الحجاج من الجبل عن طريق مسار مختلف إلى واحدة من المدن الواقعة على سفح الجبل، حيث يستمتعون بالطعام والشراب والترفيه. كانت رحلات الحج بمثابة ما يمكن أن نطلق عليه اليوم رحلة سياحية منظمة فقد كانت تضم ٢٠ إلى ٣٠ حاجا ومرشدا خبيرا بطريق الحج مع إعداد مسار الرحلات والتي شملت أيضا أماكن الإقامة.
هوكوساي. ’’شوجين توزان‘‘ (مجموهة من متسلقين الجبل)، من ’’الستة والثلاثين منظرا لجبل فوجي‘‘.
اكتسبت جماعة ’’فوجي كو‘‘ شعبية كبيرة، كما أنها كانت تقوم أيضا بترتيل التعاويذ وتلاوة الصلوات من أجل الشفاء من المرض وبيع الرُقى لدرئ سوء الحظ. في الواقع، وعلى الرغم من حظر الجماعة المتكرر من قبل شوغوناتيه، التي كانت تخشى من انتشار الديانات الشعبية، استمرت ’’فوجي كو‘‘ في الانتشار حيث وصل تعدادها في احدى المراحل إلى نحو ٨٠٨ فئة منها داخل مدينة إيدو وحدها، وذلك وفقا للسجلات المعاصرة. لم يكن جبل فوجي بالنسبة للمواطنين في إيدو مجرد أكثر المعالم ألفة بل كان أيضا واحدا من الأشياء الأكثر دراية في العبادات الدينية. لقد نظر اليابانيون منذ العصور القديمة إلى الجبال بتقديس خاص، سواء كعبادة لهم في حد ذاتها كآلهة ’’كامي‘‘ أو بوصفها أماكن للانخراط في التقشف الديني في عقيدة طائفة ’’شوغيندو‘‘التي تقوم على الزهد في الجبال. كما يحظى جبل فوجي بشكل خاص بتبجيل بوصفه قمة مقدسة وذلك منذ زمن بعيد.وهناك مايدعو إلى الاعتقاد بأن موقع فترة جومون في فوجينوميا الذي يتمتع بإطلالة ممتازة على جبل فوجي، كان معبدا مارس فيه اليابانيون الأوائل عبادة الجبل. وفي قصيدة ’’تشوكو‘‘ في موضوع يتعلق بجبل فوجي في ’’مانيو شو‘‘ وهي قصيدة لتاكاهاشي نو موشيمارو والتي تشير إلى أن الجبل هو ’’الإله الحارس لياماتو، الأرض التي تشرق منها الشمس‘‘ وبعبارة أخرى، جبل الإله الذي يحمي كل اليابان. وبالإضافة إلى ذلك، توثق ’’نيهون ريويكي‘‘ (مجموعة حكايات دينية تعود إلى القرن التاسع) أن مؤسس شوغيندو’’إن نو غيوجا‘‘ كان يصعد جبل فوجي كل ليلة عندما تم نفيه إلى إيزو. مثل الأسطورة المذكورة آنفا عن الأمير شوتوكو الذي صعد جبل فوجي على ظهر حصان، تدل قصص من هذا النوع على السحر الخاص لجبل فوجي لدى الشعب الياباني. اما في ’’فوجيسان-كي‘‘ في القرن التاسع، فقد كتب مياكو نو يوشيكا أن جبل فوجي هو المكان الذي تتجمع فيه كائنات خارقة للاستجمام، كما شوهدت اثنتين من النساء الجميلات بجلابيب بيض ترقصان على قمة الجبل أثناء مهرجان في الشهر الحادي عشر من سنة ٨٧٥. في ذلك الوقت كان هناك اعتقاد بأن جبل فوجي هو مسكن لــ’’أساما‘‘ آلهة البراكين، وقد تم بناء مزارعند سفح الجبل لتعظيمها. على الرغم من أن بركان جبل فوجي لم يكن نشطاً خلال القرون الثلاث الماضية، إلا أنه ثار مرارا قبل ذلك الوقت، وعززت رؤية الجبل يقذف دخانا أسودا في السماء ’’غوجينكا‘‘ أو ’’النار الإلهية‘‘ من الانطباع بأن للجبل قوة هائلة. وتعتبر ’’تاكيتوري مونوغاتاري‘‘ أو ’’قصة قاطع القصب‘‘ أقدم عمل أدبي في اليابان يتطرق إلى هذا الجانب من جبل فوجي في خاتمته، حيث تحاول أيضا شرح أصل اسم فوجي. فبعد عودة البطلة كاغويا-هيميه إلى القمر، أمر الإمبراطور بحرق إكسير الخلود الذي تركته على قمة الجبل الأقرب إلى الجنة. ولهذا السبب، نقل إلينا أنه يمكن دائما رؤية الدخان الأسود يتصاعد من الجبل الذي اسمه مشتق من كلمة الخلود ’’فوشي‘‘. وبغض النظر فيما إذا كان هذا التفسير صحيحا أم لا، فهذه القصة تعكس بوضوح شعور الرهبة من الجبل المستوحاة بدون أدنى شك من أولئك الذين شاهدوا الجبل يقذف دخانا ونارا. وتقدم مذكرات سفرٍ كتبت في القرن الحادي عشر ’’ساراشينيا نيكّي‘‘ أو ’’عندما عبرت جسر الأحلام‘‘ وصفا مقتضبا ولكنه ملائم لهذه الرؤية التي لا يمكن نسيانها: ’’يبدو جانب الجبل بشكل نادر لهذا العالم …… يرتفع الدخان من منطقة مسطحة صغيرة على القمة، وفي المساء يمكن للمرء أن يشاهد نيران مشتعلة‘‘.
وصول الكائنات السماوية لاصطحاب كاغويا-هيميه في عودتها إلى القمر، من لوحة مرسومة قابلة للطي تصور تاكيتوري مونوغاتاري. (مكتبة جامعة ريكّيو).
استخدمت هذه النيران كرسم فني في تصميم رائع لــ’’جينباوري‘‘ من الصوف، أو كمعطف (سترة طويلة تلبس فوق الدرع) يُقال إنها كانت مفضلة لــ’’تويوتومي هيديئيوشي‘‘. حيث تغطي فيها صورة جبل فوجي الجزء الخلفي من الثوب. وتدور ’’النار الإلهية‘‘ فوق الجبل في حين يؤكد رسم دائرة كبيرة ’’قطرات الماء‘‘ على الجزء السفلي. إنها تركيب بارع وتصميم واضح وفعّال للقماش. كما استخدم رسم فوجي بشكل متكرر في زخرفة المعدات العسكرية بما فيها الخوذ والدرع والسروج والسيوف والسكاكين. ولعل أحد الأسباب التي تجعل المحاربين مولعين بهذا الرسم في اعتقادهم يكمن في أن فوجي مرتبط بالخلود.
معطف عليه تصميم جبل فوجي باللون الأصفر والخلفية منسوجة بصوف أسود. (متحف قلعة أوساكا).
كان جبل فوجي في الحقيقة محط تركيز العديد من العقائد الدينية. فخلال فترة العصور الوسطى عندما كانت الديانتان البوذية والشينتو متقاربتين بشكل يكاد يكون متلاصقاً تماماً، بُني معبد بوذي على قمة جبل فوجي حيث ظهرت هنالك فرقة تبشر أن الأرض النقية للبوذا أميدا تقع على قمة جبل فوجي. ولا تزال العديد من رموز جبل فوجي الدينية موجودة من تلك الفترة، يظهر أحدها ثالوث أميدا (أميدا محاط بالبوديساتف ’’كانّون‘‘ و’’سيئيشي‘‘) على القمة، ويحمل آخر كلمات الــ’’نينبوتسو‘‘ وهي ’’نامو أميدا بوتسو‘‘. ولكن في بداية حقبة إيدو ارتبط جبل فوجي في المقام الأول بالإلهة كونوهانا ساكويا هيميه التي تظهر في ’’كوجيكي‘‘ وهي التي بقيت إلهة الجبل الرئيسية حتى وقتنا الحالي. كما يبقى جبل فوجي في عالم الاعتقاد الشعبي رمزا للحظ الجيد. وحتى وقتنا الحالي، يؤمن العديد من اليابانيين بأن الحلم الأول من كل عام نذير وبشيرعن السنة المقبلة، وأكثر أولى الأحلام حظا تلك التي تكون حول جبل فوجي. وتكتنف العقائد الدينية المتعلقة بجبل فوجي جوانباً من الشينتو والبوذية والطاوية (شوغيندو) والدين الشعبي. ويبقى جبل فوجي من خلال تلك المواقف المتشابكة مرتبطا بشكل وثيق بقلوب الشعب الياباني.
جبل فوجي والسياحة
في حين أن تسلق جبل فوجي بهدف الحج من قبل جماعة ’’فوجي كو‘‘ كان ظاهريا ذو طبيعة دينية، إلا أنهم أيضا كانوا يتسلقون الجبل كنوع من السياحة والرياضة حيث شكّل ذلك فرصة لسكان مدينة إيدو لرؤية مناظر لم يعتادوا عليها من قبل ولزيارة مدن جديدة وتجربة عادات جديدة ومناسبات، وببساطة الابتعاد عن كل ما يتعلق بمدينة إيدو. الأمر ذاته ينطبق على الحج إلى إيسيه وجبل كوتوهيرا في جزيرة شيكوكو والمشهورين بمعبديهما. هذا ويقدر المؤرخون، اعتمادا على وثائق معاصرة من بينها تقارير مرسلة إلى شوغوناتيه من قبل قاضي يامادا في إيسيه في بداية القرن الثامن عشر، ولعل أنّه كان هنالك كما يبدو عدد يتراوح ما بين ٥٠٠٠٠ و٦٠٠٠٠ شخص ممن كانوا يزورون معبد إيسيه خلال السنة العادية. أما في السنوات التي شهدت مراسم خاصة فقد كان تتجمع في إيسيه أعداد مضاعفة بعدة مرات من الأشخاص الوافدين من مختلف أنحاء اليابان حيث كانت تصطف على جانبي الشوارع المحيطة بالمعبد امام محلات بيع التذاكر ونزل السكن ومراكز المعلومات وأيضا على طول الطريق المؤدية إلى هناك من المدن المجاورة. وبالإضافة لزيارة المعبد والتي هي الهدف الرئيسي للذهاب إلى إيسيه بالتأكيد، وكان الحجاج يستمتعون أيضا برؤية المناظر على طول الطريق. فقد كان الذهاب إلى إيسيه شيئا يقوم به أناس من مختلف الأطياف بسهولة وأمان حسب ما أظهرته التقارير في ذلك الوقت وبأنه كان ايضاً بين الحجاج نساء وأطفال. حيث كان السفر بشكل عام شائعا للغاية خلال حقبة إيدو. وبالطبع لم يكن الأمر غريبا عن اليابانيين كما تشير مذكرات شهيرة مثل ’’توسا نيكّي‘‘ (٩٣٥: مذكرة توسا) لـ’’كي نو تسورايوكي‘‘ و’’إيزايوي نيكّي‘‘ (١٢٨٠: مجلة قمر الليلة السادسة عشر) في شهادة لــ’’أبوتسو ني‘‘. ولكن شهدت حقبة إيدو إقبالا غير مسبوق على السفر وذلك لعدة أسباب. فنظام ’’سانكين كوتاي‘‘ الذي وضعه شوغوناتيه كان يلزم الإقطاعيين والأسر المسؤولين عنها السفر ذهابا واياباً بين مقاطعاتهم ومدينة إيدو، وهذا بالإضافة للنمو السريع للتجارة الأمر الذي يتطلب نقل البضائع. ففي تلك الأثناء ومع استمرار السلام الذي فرضه توكوغاما شوغوناتيه، تولد لدى الناس فضول للسفر بهدف الاستجمام. واستجابة لتلك العوامل، تم بالتالي فتح طرقات وانتشرت النُزل واماكن المبيت والاستراحة على طول الطرق، بينما ضمنَ تطور نظام البريد شبكة اتصالات مميزة تغطي أرجاء البلاد. وهكذا تضافرت كل تلك العوامل لزيادة عدد الناس الذين يسافرون في أنحاء البلاد. وكان ’’توكايدو‘‘ الطريق الواصل بين مدينة إيدو التي شهدت نموا سريعا في الشرق ومدينتي كيوتو وأوساكا في الغرب من أكثر تلك الطرقات ازدحاما. ومن جانب آخر يشير الإقبال الكبير على شراء رواية ’’متشرد جيبّينشا إكّو‘‘ أو ’’على الطريق‘‘ و’’توكايدوتشو هيزاكوريغيه‘‘ (١٨٠٢ـ٩: عرقوب ماري) والشعبية الكبيرة لسلسلة ’’المحطات الثلاثة والخمسين لتوكايدو‘‘لهيروشيغيه والتي نشر منها ثلاث نسخ منفصلة، إلى جاذبية السفر على طريق ’’توكايدو‘‘ وتأثير الطريق السريع على المخيلة الجماعية لليابانيين.
هيروشيغيه. ’’هارا‘‘ من ’’المحطات الثلاثة والخمسين لتوكايدو‘‘.
كانت رؤية جبل فوجي من أماكن مختلفة على طول طريق ’’توكايدو‘‘ إحدى متع السفر في ذلك الطريق. وقد طُبع عدد كبير من الخرائط والمطبوعات الإرشادية في حقبة إيدو والتي توضح كل الجوانب البارزة الرائعة لجبل فوجي وطرق الرحلات. كما مُجّد جمال الجبل باستمرار في مذكرات السفر ومحاضرات السفر التي تبقت لنا منذ ذلك الوقت، وكانت مشاهدات المسافرين عن جبل فوجي موضوعا شائعا للرسامين والشعراء على حد سواء. فقد كتب شاعر الهايكو والرحالة الشهير باشو في ’’نوزاراشي كيكو‘‘ (١٦٨٥: أرشيف هيكل مكشوف للطقس) القصيدة التالية بعد أن عبر من مدينة هاكونيه في جو ماطر حيث كان جبل فوجي مختفيا بين الغيوم:
ضباب ورذاذ
كان اليوم مثيراً للاهتمام
ولكن ليس لرؤية جبل فوجي
يمكن للمرء القول بأنّ جبل فوجي محفور بعمق في قلب الشاعر بحيث يمكن أن يظهر له حتى عندما يحتجب عن الرؤية. وفي القرن الثامن عشر كتب شاعر ورسام مدينة كيوتو ’’بوسان‘‘ متذكرا رحلة قام بها إلى مدينة إيدو القصيدة التالية مستحضراً صوراً حية تماماً مثل أي لوحة:
جبل فوجي وحيد
تُرك دون غطاءٍ
بالأوراق الجديدة
وجنباً إلى جنب مع وصف المسافرين العاديين لمشاهدتهم لجبل فوجي، فقد لعبت الأعمال الفنية والأدبية أيضاً دوراً مهماً في انتشار صورة جبل فوجي وفي ترسيخها في الوعي الجماعي لليابانيين. كما يدلل على الموقع المتميز الذي ناله جبل فوجي كأحد معالم الإعجاب العالمي عادةً وذلك من خلال إطلاق ألقاب على جبال محلية تحمل اسم فوجي متبوعاً باسم المنطقة وذلك مع بداية حقبة إيدو. ومن تلك الأمثلة كان جبل إيواكي في محافظة آوموري الذي كان يطلق عليه اسم تسوغارو فوجي وجبل كايمونداكيه في محافظة كاغوشيما ثم اصبح يطلق عليه اسم ساتسوما فوجي. وفي العصر الحديث، ازداد إطلاق أسماء فوجي على الجبال انتشاراً ليصل العدد الكلي إلى نحو ٣٥٠ اسماً في مختلف أرجاء البلاد. هذا ويبقى مدى تشابه تلك الجبال الفعلي مع جبل فوجي الأصلي موضع جدل ونقاش، إلا أنه يكفي التنويه الى انّ أسمائها فقط وعلى النحو المبيّن آنفاً تشير ببلاغة إلى المكانة الفريدة التي احتلها جبل فوجي في قلوب اليابانيين.
(المقالة الأصلية باللغة اليابانية. الترجمة من الإنكليزية، نشرت لأول مرة في جابان إيكو/ صدى اليابان، مجلد ٣٠، رقم ١، مارس/آذار ٢٠٠٣)