يقول الحطيئة :
الشعر صعب و طويل سلمه.....إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه......يريد أن يعربه فيعــــجمه
الشعر ديوان العرب و هو فنهم الأول و كما تميز الألمان بالموسيقا و الايطاليين بالنحت و الروس بالقصة و الأمريكان بالسينما . يظل الشعر فن العرب الأهم و سجل أمجادهم ...
و قديما قالوا أنزلت الحكمة على ثلاث : على أدمغة اليونان و أيدي الصين و ألسنة العرب.
و قد أعطى العرب قدسية للشعر و تجاوزوا عن هفوات الشعراء إكراما للغة العربية و للشعر العربي.
و قد كان في صدر الاسلام الكثير من الشعراء الماجنين (كعمر بن أبي ربيعة و الأخطل)
لكن كان لديهم من الحرية و الانفتاح و قبول الرأي ما ليس لدى الكثير من أهل هذا الزمن و هذا ما جعل الشعر يزدهر في زمنهم و ينهار في أيامنا و ذلك لأن الكثير لا يريدون أن يرهقوا أنفسهم في البحث في ما وراء الكلمات فتراهم يتخبطون في تأويلات غير صحيحة و كما قال الشاعر:
و كم من عائب قولا صحيحا........و آفته من الفهم السقيم
يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره كلمات سمعناها كثيراً و لكن هل أدركنا ماهيتها ...
إذا لم تعط للشاعر الحرية الكاملة و الفضاء الواسع فلن يبدع و ستبقى كلماته تكرارا لمعان قديمة و أفكار باهتة.
فالحرية أساس الابداع في كل المجالات .
و لا تقف أهمية الشعر العربي عند هذا بل إن عظمة الشعر هي التي خلدت صفحات من التاريخ مشرقة , فقصيدة أبو تمام :
السيف أصدق إنباء من الكتب .......في حده الحد بين الجد و اللعب
أعطت لهذه المعركة إشراقاً لم ينله غيرها. كذلك سطرت اسم المعتصم بماء الذهب.
و لننظر إلى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز و قصته مع الشعراء:
فلما أفضت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز وفدت إليه الشعراء كما كانت تفد على الخلفاء من قبله ، فأقاموا ببابه أياما لا يؤذن لهم في الدخول حتى قدم عدي بن أرطأة عليه وكان مِنه بمكانة فتعرض له جرير وقال :
يا أيها الرجل المزجى مطيته ****هـذا زمـانك أني قـــد خــلا زمني
أبلـــغ خليفتنا إن كنت لاقيه ****أني لدي الباب كالمشدود في قــرن
لاتنس حاجتنا لاقيت مغفرة ****قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
فقال : نعم يا أبا عبد الله .
فلما دخل على عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال : يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وألسنتهم مسمومة وسهامهم صائبة
فقال عمر رضي الله عنه : مالي وللشعراء ؟!
فقال : يا أمير المؤمنين إن رسول الله مُدح فأعطى ، وفيه أسوة لكل مسلم
قال : صدقت ، فمن بالباب منهم ؟
قال : ابن عمك عمر بن أبي ربيعة القرشي .
قال :أليس هو القائل :
ألا ليتني في يوم تدنو منيتي ***شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك كله ***وليت حنوطي من مشاشك والدم
وياليت سَلمى في القبور ضجيعتي ***هنالك أو في جنة أو جهنم !!
والله لا يدخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال : جميل بن معمر العذري
قال : أليس هو القائل :
ألا ليتنا نحيا جميعا فإن نمت ****يوافى لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول الحياة براغب ****إذا قيل قد سُـــوي عليها صفيحهـــا
أظل نهاري لا أراها وتلتقي *****مع الليل روحي في المنام وروحهــا
والله لا يدخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال كثير عزة
قال أليس هو القائل :
رهبان مدين والذين عهدتهم ***يبكون من حذر الفراق قعودا
لو يسمعون كما سمعت حديثها ***خروا لعزة ركعا وسجودا
فوالله لا يدخل علي أبدا .
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال : الأحوص الأنصاري
قال :أليس هو القائل وقد افسد على رجل من أهل المدينة جاريته حتى هرب بها منه :
الله بيني وبين سيدها ......يفر مني بها وأتبعه
فمن بالباب غيره ممن ذكرت ؟
قال الأخطل الثعلبي
قال أليس هو القائل :
ولست بصائم رمضان عمري ****ولست بآكل لحم الأضاحي
ولست بزاجر عِيسا بكورا **** إلى أطــــلال مكـــة بالنجاح
ولست بقائم كالعبد يدعو **** قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولا **** وأسجــــد عند منبلج الصباح
أبعده الله عني فوالله لا دخل علي .
فمن بالباب غيره من الشعراء ممن ذكرت ؟
قال : جرير.
قال أليس هو القائل :
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا .......وقت الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهذا فأذن له .
قال عدي بن أرطأة : فخرجت فقلت : أدخل يا جرير
فدخل وهو يقول :
إن الذي بعث النبي محمدا .....جعل الخلافة في الإمام العادل
وسع الخلائق عدله ووقاره .....حتى ارعووا وأقام ميل المائل
إني لأرجو منه نفعا عاجلا ......والنفس مولعة بحب العاجل
والله أنزل في الكتاب فريضة ......لابن السبيل وللفقير العائل
فلما مثل بين يديه قال : يا جرير ! اتق الله ولا تقل إلا حقا
فأنشأ يقول :
كم باليمامة من شعثاء أرملة ......ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن بعدلك يكفي فقد والده .........كالفرخ في العش لم يدرج ولم يطر
أأذكر الجهد والبلوى التي نزلت ......أم قد كفاني ما بلغت من خبري
إنا نرجو إذا ما الغيث أخلفنا ........من الخليفة ما نرجوا من المطر
إن الخلافة جاءته على قـــدر........ كما أتى ربه موسى على قــدر
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها....... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
الخير ما زلت حيا لا يفارقنا .......بوركت يا عمر الخيرات من عمر
فقال : والله يا جرير لقد وافيت الأمر ، ولا أملك إلا ثلاثين دينارا ، فعشرة أخذها عبد الله ابني ، وعشرة أخذتها أم عبد الله ، ثم قال لخادمه :
ادفع إليه العشرة الثالثة
فقال : والله يا أمير المؤمنين أنها لأحب مال اكتسبته.
-الملاحظ أن عمر بن عبد العزيز يعرف هؤلاء الشعراء و يحفظ شعرهم مع أنه لا يوافقهم الرأي و لم ينهر أحدا منهم أو يحاسبه أو يأمر بعدم تدوين شعره بل اكتفى بالاعراض . و هذا لعمري قمة الحرية و تقبل الآخر .....